التصور العام حول ما يمكن تسميته بالشمولية المعلوماتية

1
إن الشمولية كمظهر سياسي جديد من الحكم، تعني السيطرة الشاملة، وفي وصفها تستخدم حنة أرنت
الحكم الستاليني أو السوفيتي عموماً كنموذج. تتخذ الشمولية الشكل السياسي غالباً: بما يكون مخالفاُ بشكل شامل للديمقراطية، كما يظهر في كتابات أرنت وجوان لينز. إن بذرة الشمولية تعود إلى “انجذاب عقلية الغوغاء للشر والجريمة[…]” إن الشر كمفهوم عند أرنت، وغوغاء العقل خصائص دالة على قابلية حدوث أو حدوث العنف المادي اللامتناهي بالفعل، والمتبوع بانتهاكات جسيمة بحق الإنسانية. تتحقق تلك الخصائص وحالة الحدوث للعنف في الأنظمة السياسية التي أدت إلى قتل، أو تجويع، أو اختفاء/اعتقال الآلاف أو أبعد من ذلك، مع الامتناع -بنية مسبوقة- عن تغيير النظام بشكل دوري، أو إتاحة أي تنفيس سياسي للشعب؛ بحيث لا يمكن تطوير الأوضاع المجتمعية بناءً على هذا التنفيس السياسي. إن النموذجين النازي والإسرائيلي مثالين آخرين على الشمولي، فحكم هتلر نموذج متناول في الأدبيات المتحدثة عن الشمولية، ولكن النموذج الإسرائيلي الذي ينطبق عليه الشكل الشمولي السياسي غائباً عن مشهد الأدبيات، لأسباب إيديولوجية بلا شك. 
حول هذا الفصل عن الشمولية، يكمن جوهر الفكرة بتجاوز الحقل السياسي الذي يمكن أن يركز عليه هذا المفهوم؛ منتقلاً إلى شمولية من نوع آخر كالمعلوماتية (وهذا النوع هو ما يهمنا في هذا الفصل)، أو الرقمية، أو غير ذلك. يتحقق تناول الشمولية المعلوماتية بالتحليل النقدي، من خلال دراسة المجال الاجتماعي الخاص بتأثيرات الجهاز الإعلامي الإيديولوجي، والتي تظهر مجتمعياً في عدة صور، منها: 
التأثير الخارجي للإعلام على المكونات الداخلية لعقلية الفرد، والتي من خلالها يتصرف أو يفكر الفرد، وهذا على الصعيد الفردي

1. Arendt, Hannah. The Origins of TotalitarianismThe World Publishing Company, 1958, p. XI. Translated by the author.

2.  See the Origins of Totalitarianism, P. 306, and Juan j. Linz, Totalitarian and Authoritarian Regimes, Francisco, R. A. (2001). Totalitarian and Authoritarian Regimes by Juan J. Linz. Yusof Ishak Institute23(1). Translated by the author

3.  Arendt, above note (1) 307.

4. أشارت أرنت لهذا المفهوم في كتابها في مناسبات عديدة.

 

2
التأثير الخارجي للإعلام على المكونات الداخلية للإحساس الشائع بين الأفراد، والذي من خلاله تتباين أو تتفق النظرات العامة بين الناس، وهذا على الصعيد الجمعي.
في كلا الحالتين، تم التعاطي مع التأثير الإيديولوجي للإعلام على أنه عامل خارجي، إذ عندما نقول خارجي فينبغي أن نتصور العقلية الفردية أو الإحساس الجمعي بصورة غير مجردة من تأثيرات الإعلام. وذلك من أجل ملاحظة تباين الوضعين؛ أي الوضع تحت حالة التأثير، والوضع بمعزل عن التأثير.
في حديثه عن تأثيرات الإعلام، يقول جان بورديار: “نحن نعيش في عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل.” إن تغيب إنتاج المعنى بالرغم من وفرة المعلومات، يشير إلى عدم توافر شرط الإرادة الحرّة الخاص بعملية خلق المعنى. وفي عدم توافر الإرادة يوجد إشارة إلى وجود عقلية التفاصيل الفردية: التي يغيب عنها التفكير التواصلي، والتحليل المتسق. علاوة على ذلك، تشير حالة تغيب الإرادة وحالة العجز في إنتاج المعنى إلى الخضوع للهيمنة، وهي في هذه الحالة هيمنة الجهاز الإعلامي الإيديولوجي. صحيح أن حالتي الافتقار للإرادة، وحالة العجز عن انتاج المعنى تعودان إلى خصائص تلك العقلية الفردية، إلا أنهما يلعبان دوراً أساسياً في توجيه الإحساس الشائع بين الناس، وبذلك يتجاوزان صعيد العقلية الفردية! هكذا، نصل إلى أساسيين ننطلق من خلالهما في هذا الفصل من حيث تأثير الجهاز الإعلامي الإيديولوجي: الأول، أن للجهاز الإيديولوجي الإعلامي شمولية من نوع آخر، وهي الشمولية المعلوماتية والثاني، أن نفس الجهاز يقوم بتعميم عقلية التفاصيل الفردية: العاجزة عن إنتاج المعنى -بالرغم من وفرة المعلومات- بين الأفراد، ولتنتج لاحقاً إحساس شائع بين الناس.
لنأخذ الراديو على سبيل المثال. إن في تحليل مسألة الراديو يظهر لدينا الوظيفة الفعلية للراديو، والغاية من وجود الراديو. إن الغاية الأساسية للقائمين على الراديو تختلف عن الوظيفة الأساسية العملية للراديو. إذ أن الغرض التبسيطي للقائمين على الراديو يتمحور حول تحقيق مكاسب مادية، ولكن بمجرد أن يأخذ الراديو مجاله في الواقع؛ فإنه يعرض أن وظيفته تتخطى ذلك الغرض. قد نتفق مع هوركهايمر وأدورنو بأن تقديم الراديو (كوسيلة إعلامية) -من قبل القائمين عليه- على أنه يقوم بإنتاج “حقيقة اجتماعية” أمر سخيف. ولكن نختلف معهم في اعتبار الراديو بجانب الفيلم -كما يرد في النص- عبارة عن مُنتجِات بشكلها الأساسي تنتج الأعمال التجارية، ولا تعدو عن كونها تنتج “الهراء.” وذلك الخلاف لحقيقة أن الطريقة التي يقوم الراديو بنقل الحقيقة من خلالها، وبتكوين الإطار من حولها (أي من حول الحقيقة) توضح أن الراديو يؤدي مهمة إيديولوجية تتخطى ذلك التجريد الذي قد يشير إلى أن الوظيفة الأساسية للراديو تنتهي بإنشاء الأعمال التجارية التي تهدف لتحقيق الأرباح، وإن كان هنالك اضطرار للجوء إلى السخافة لجذب اهتمام الجماهير. يمكن أن يتكوّن لدينا الاحتمال بأن هنالك مستفيدين أساسين من وجود الراديو. أولاً، الدولة التي تستفيد من الوظيفة الإيديولوجية للراديو، ثانياً، القائمين على الراديو، والذين يستفيدون منه كمصدر للأرباح أكثر من التعبير عن علاقات الولاء للدولة والعلاقة التبادلية بينهم وبين الدولة.
إن الهراء قد يكون نتيجة عرضية لتفاهة الغاية لدى القائمين على الراديو، ومحدودية الاهتمام لديهم. فالاهتمام أساساً يقتصر على تحقيق الأرباح والرغبة في التعبير عن الولاء للدولة لاستمرار وجود منشأة الراديو. ولكن عرضية هذا الهراء أيضاً تحقق أغراض إيديولوجية. مثلاً عندما يصبح الهراء خطاباً منتشراً بين الناس، يتجانس مع ظاهرة عقلية التفاصيل الفردية التي يجولها الجهاز الإعلامي الإيديولوجي إلى ظاهرة اجتماعية. إن في انتشار عقلية التفاصيل تلك، أو الهراء تعبير عن انزلاق كلا الفرد والمجتمع إلى ظواهر اجتماعية أخرى ذات أبعاد مادية أكثر وضوحاً: كالجريمة، والتخلف. كل تلك الظواهر ستتضح أكثر مع مرور الوقت، وستتضح علاقتها بكل من عقلية التفاصيل لدى الفرد والإحساس الشائع لدى الفرد.

6. Horkheimer, Max and Adorno, Theodor. Dialectic of EnlightenmentStanford University Press, 2002, p. 95. Translated by the author.

7.  Ibid.

8
ما ينطبق على الراديو، ينطبق على وسائل التواصل الاجتماعية في العالم الرقمي المعاصر، فلوّ عاصر الفيلسوفان التطور التكنولوجي المرتبط بالإنترنت؛ لرأوا إلى كل ما يحاكي الراديو ووظيفته بنفس الطريقة التي نظروا فيها إلى الراديو.
بمجرد أن يُحاصَر الفرد والمجتمع بالظواهر الاجتماعية المادية ذات التأثيرات القهرية على المجتمع، فإننا نتداول الشمولية على النمط النازي، أو الإسرائيلي في تحليلنا السياسي، أو السياسي—الاجتماعي. ولكن ههنا تظهر لدينا الشمولية المعلوماتية: التي تسلب الفرد إرادته، وتخلق له صنفاً من الحرية التي تتموضع في شكل معيّن؛ يحدد هذا الشكل الجهاز الإعلامي الإيديولوجي بالعودة إلى الدولة (كمركز مرجعية للجهاز). هذا الشكل للحرية بمجرد نجاحه في الواقع، يصبح بمثابة الشكل الوحيد للحرية. إن تلك الشمولية هي أيضاً قائمة على العقلانية، لسببين أساسيين، يفسر السببُ الأولُ السببَ الثاني. أولاً، تصبح الشمولية المعلوماتية مقبولة مجتمعياً ومرغوبة شعبياً؛ بحيث يكون الغني والفقير في عرضة متشابهة للوقوع تحت هيمنة تلك الشمولية، وينطبق ذلك على النمط البرجوازي المشوّه في المجتمعات العربية. أما السبب الثاني، فنستعرضه بالعودة قليلاً إلى مفهوم الهابيتوس؛ الذي بمجرد إنتاجه نمط حياة يعبّر عن نجاحه في استمرار الواقع، مهما كانت الكثير من تفاصيل ذلك الواقع قهرية أو غير مقبولة لدى بعض حاملي الهابيتوس. فالجهاز الإعلامي الإيديولوجي بمجرد أن يكون قد سلك في الواقع بصورة مقبولة شعبياً، فإنه يعبّر عن نجاحه في الاندماج في عادات المجتمع أو الذهنية السائدة للمجتمع؛ مما يجعل الجهاز قادراً على إنتاج شمولية معلوماتية شرعية، ستؤدي إلى تخريب المجتمع، وذلك لحماية هدفين أساسيين، هما مختلفين؛ ولكنهما متوائمين: أ-أ-أ-تحقيق الأرباح للقائمين على الجهاز الإعلامي الإيديولوجي (القائمين على الراديو مثلاً)، وب-ضمان استقرار الوضع الراهن للدولة (عبر تمرير سياساتها بصورة ديماغوجية).
آثار الشمولية المعلوماتية في نشأة استراتيجية عقلية التفاصيل: قمع الذات والمراقبة
في غياب التفكير التواصلي والتحليل المتسق عن عقلية التفاصيل الفردية تظهر عداوة تلك العقلية لذاتها؛ عبر عداوتها لحرياتها. لأن الحرية المقيدة -من قبل الدولة- بشكل معيّن لتلك العقلية تصبح الشكل الحصري، والوحيد من الحرية الملائم لتلك العقلية؛ لأن تلك العقلية لم تعرف سوى ذلك الشكل من الحرية. تلك الحرية يروّج لها الجهاز الإعلامي الإيديولوجي، وينشرها مجتمعياً، مما يجعلها الشكل المتناول والواقعي. لذلك، “أي حاجة قد تفلت من السيطرة المركزية ستُقمَع من خلال ذلك الوعي الفردي.” قد تحدثنا عن تساوي الغني والفقير من ناحية إمكانية

9.

يشبه هذا الوضع مثال الكهف لدى أفلاطون، فلا يستطيع الجهلاء الذين يعيشون في الظلام إلا أن يتعلموا التفاصيل من أولئك العُقلاء الذي عاشوا في النور، أو خرجوا من الكهف.

10.  Ibid, pp. 95-96.

الخضوع للجهاز الإعلامي الإيديولوجي من باب الافتراض بأن “الراديو يجعل الجميع بشكل ديمقراطي متساوين ]ك[مستمعين، من أجل تعرية الجميع بطريقة سلطوية للبرامج المماثلة التي تضعها المحطات الإذاعية المختلفة.” ما ينطبق على الراديو، ينطبق على كل ما يمكن تصنيفه في نطاق الجهاز الإعلامي الإيديولوجي. 
يصبح من الصعب للغاية معالجة واقع العقلية المهزومة والواقعة تحت وطأة الشمولية المعلوماتية عندما يكون ارتدادها الموضوعي نحو ذاتها، والناتج عن التناقض بين تفكيرها وواقعها عبارة عن قمع لذاتها. كما لا يغيب عن تفكيرنا أن تلك العقلية تعيش وسط حصار إيديولوجي بنيوي من خلال الأجهزة الإيديولوجية المتعددة، والتي تتوافق نهائياً في انتاج تلك العقلية. إن ما يجعل التعقيد يستمر، أن تلك العقلية في غالب الأحيان تعيش وسط الظروف الاقتصادية—الاجتماعية الصعبة: كحالة الاغتراب، أو الحالة التي يتوجب على الفرد بها أن يكون مشغولاً طوال العام لكي يخلق الثروة التي تمكنه من الزواج، أو امتلاك منزل جيد، أو غير ذلك. تلك الظروف تبقي الفرد منشغلاً، ومُجبراً على إعادة إنتاج شروط واقعه الخاصة بذاته؛ لكي يستمر في العيش بما يضمن له أشكالاً من الترف والاستهلاك التي علّمته إياها الأجهزة الإيديولوجية كأنماط للحياة البشرية الحديثة.
بالاعتماد على تحليل فلسفة السلطة عند ميشيل فوكو، تستذكر جوديث بتلر بأن السلطة كما اعتدنا عليها هي “ما يضغط على الذات من الخارج، ما يخُضِعها (الذات)… ما ينزلها إلى المرتبة الأدنى.” بتصور دور الجهاز الإعلامي الإيديولوجي في ضوء هذا المفهوم للسلطة، يمكن أن نرى أن الجهاز بإمكانياته المعاصرة في حالة مماثلة للسلطة عندما تجعل الفرد ذاتاً مستلبة، بعكس الذات المكتملة معالم الإرادة والحرية. إن هذا الجهاز يلعب دور العامل الخارجي لمفهوم السلطة في جعل الفرد منذ ولادته بمكانة محددة مسبقاً على أنها أدنى فعلياً. 
التحديد الاستباقي بحق مكانة الذات الخاضعة من قبل علاقات الذات بالسلطة، وتفاعلاتها (أي الذات) معها؛ تُنتج انعكاسية معينة لدى الذات التي تصبح محكومة “بالضمير”. هذه الانعكاسية تؤثر في الرغبة لدى الذات، ففي بعض

11.  Ibid.

12.

 ينطبق هذا الربط مع الظروف الاقتصادية—الاجتماعية الصعبة على الطبقة الوسطى والفقراء أكثر من انطباقه على الأغنياء.

13.  Butler, Judith. The Psychic Life of Power Theories in SubjectionStanford University Press, 1997, pp. 1-2. Translated by the author

14.  Ibid, p. 21.

الأحيان تحد من مجالات الحياة الاجتماعية، وفي أحيان أخرى تنتج مجالات من “الحياة الاجتماعية القابلة للعيش” لدى الذات. تتشكل تلك الانعكاسية من خلال الضمير عند الذات، باستمرار مراجعة الذات الخاضعة لنفسها؛ بالعلاقة مع “القانون” الذي لقنتها إياه أجهزة الدولة الإيديولوجية. إن تلك الانعكاسية عبارة عن عامل نفسي يحدد علاقة الذات الخاضعة بنفسها؛ وبتوجهاتها التي ستحدد علاقتها بالعالم الخارجي؛ لاسيمّا كل ما يؤسس لخضوع الذات. بمجرد أن يكون لدى الذات حالة من الخضوع لدى قوّة تُخضِع؛ فإن الذات الخاضعة ستحمل مكانة دنيوية.
تحتوي هذه المكانة الدنيوية بواقعها على تغذية منطق قمع الذات الناتج عن عقلية التفاصيل الفردية، والمبرر لاستمرار قمع الذات. وذلك حين يتطور القمع الذاتي كارتداد لموضوع عقلية التفاصيل الفردية؛ والتي جعلها الجهاز الإعلامي الإيديولوجي جزءاً من واقع الفرد. نتمكن بهذا الادعاء من القول بأن الذات الخاضعة هي ذاتاً مقموعة؛ بقمع نابع من داخل الذات، ولكن بمعايير تختلف بعض الشيء عن تلك الواردة عند بتلر. تجدر الإشارة هنا إلى أن الفرد يطوّر هذا القمع الذاتي بصورة تبدو وكأنها ممارسة حرّة؛ بمجرد غياب القمع الظاهري للجهاز الإيديولوجي. هنا يصبح قادراً على قمع الذات بحرية ظاهرة؛ تجعلنا نرى ذلك الفرد يتصرف على أنه حرّ، ولا وجود لعامل خارجي مساهم في عملية القمع. ولكن من ينظر بنقد، يدرك أن قمع الجهاز الإيديولوجي متجذر في تلك الحرية الظاهرة. يمكن الاستدلال على عناصر: الخضوع، والجهاز الإعلامي الإيديولوجي، وعقلية التفاصيل الفردية، والعلاقة التي تنشأ بتدرج الهرمي بين كل تلك العناصر بالنظر إلى الشكل التالي بصورة تصاعدية.

15.  Ibid.

16.

مكن هنا أن يظهر نعود إلى منطق الإيديولوجية الدينية في نشأة الارتداد السلبي المستمر نحو الذات، بحكم الضمير. فالضمير، كمسألة دينية: من المعروف أنها تتغذى على الخطاب التخويفي لدى الشيخ أو الكاهن.

بمجرد أن تنجح آلية قمع الذات في المرة الأولى في انتاج القناعة بتدني الذات المقموعة أمام القناعة بتفوق الدولة على تلك الذات، فإن هذا يعني إنشاء قناعة مستديمة بتدني الذات. كيف يكون ذلك؟ إن السلطة بحاجة إلى أن تكون ممارسة خارجية؛ تُمارس على جوهر الذات؛ إذ تتشكل عبرها الاعتقادات الذاتية، والرغبة الذاتية، والقدرات الذاتية لإدارة أمور وأشياء الواقع والتعامل معها مع الإتاحة بتوهم أن الذات حرّة، ولا تأثير عميق كهذا للدولة عليها. هذا الشرط ضروري من أجل خلق تبعية جوهر الذات للسلطة (كعامل خارجي)، وهو بذلك سيساهم في التعريف بالذات بواسطة الشكل الظاهري للحرية التي تظهر الذات على أنها حرّة. بصدد ذلك الوضع، تشير بتلر إلى أن السلطة في كل مرة بحاجة إلى أن تكون خارجية على الذات؛ من أجل الإلحاح عليها لإنشاء “التبعية.” إن دور الجهاز الإعلامي الإيديولوجي هنا يكمن في تزويد الذات المقموعة بالتفاصيل، ووضع مجموعة أفكارها لضمان استمرار تأسيس القناعة بتفوق الدولة على تلك الذات. في هذا الوضع، ليست السلطة المتمثلة في الجهاز الإعلامي عبارة عن عامل خارجي، وإنما هي عبارة عن الشرط المادي الذي “نعتمد ]عليه[ في واقعنا ونستضيفه ونحتفظ فيه على الكينونات التي نحن عليها.”

19.

نحن هنا ندعي أن القابلية لا الاستدامة هو ما يتحقق. ولا ننفي احتمالية نفي تلك القناعة عبر الثورات، أو بالتوجيه الثوري الذي يكون كعامل خارجة عن تلك الذات. في بعض الحالات التي تتطلب بحثاً، تُعبِئ الذات نفسها من خلال التأثر بالظرف الموضوعي. مثلاً، مع استمرار ضغط الفقر والتخلف، تتشكل الأسئلة لدى الذات، وتصبح رافضةَ للوضع القائم، ولو بصورة بدائية للغاية، ولكنها ستحتاج التوجيه الثوري؛ لتنضج في الواقع.

19.  Ibid, p. 3.

20.  Ibid, p. 2.